الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشنقيطي: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)}.تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5] وقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ}. الآية كقوله تعالى: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقوله تعالى: {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} [النجم: 62] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {الذي يُخْرِجُ الخبء} وقال بعض أهل العلم: الخبأ في السموات: المطر، والخبأ في الأرض: النبات، والمعادن، والكنوز، وهذا المعنى ملائم لقوله: {يُخْرِجُ الخبء} وقال بعض أهل العلم: الخبأ: السر والغيب أي يعلم ما غاب في السموات، والأرض، كما يدل عليه قوله بعده {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وكقوله في هذه السورة الكريمة: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السماء والأرض إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل: 75] وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] كما أوضحناه في سورة هود، وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير الكسائي: ألا يسجوا لله بتشديد اللام في لفظه ألا، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المذغمة في لفظه لا، فالفعل المضارع على هذه القراءة، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر، وقيل في محل جر وفي إعرابه أوجه.الأول: أنه منصوب على أنه مفعول من أجله: أي وزين لهم الشيطان أعمالهم، من أجل ألا يسجدوا لله: أي من أجل عدم سجودهم لله، أو فصدهم عن السبيل، لأجل ألا يسجدوا لله، وبالأول قال الأخفشز وبالثاني قال الكسائي، وقال اليزيدي وغيره: هو منصوب على أنه بدل من أعمالهم: أي وزين لهم الشيطان أعمالهم، ألا يسجدوا أي عدم سجودهم، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم لله، وهذا الإعراب يدل على أن الترك عمل كما أوضحناه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] وقال بعضهم: إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من السبيل. أو على أن العامل فيه فهم لا يهتدون، وعلى هذين الوجهين فلفظة لا صلة، فعلى الأول منهما. فالمعنى: فصدهم عن السبيل سجودهم لله، وعلى هذا فسبيل الحق الذي صدوا عنه، هو السجود لله، ولا زائدة أيضًا للتوكيد، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل، وموصول حرفي إن كان الفعل منفقيًا ذكرت لفظة عدم قبل المصدر، ليؤدي بها معنى النفي الداخل على الفعل، فقولك مثلًا: عجبت من أن لا تقوم. إذا سبكت مصدره لزم أن تقول: عجبت من عدم قيامك، وإذا كان الفعل مثبتًا لم تذكر مع المصدر لفظة عدم، فلو قلت عجبت من أن تقوم، فإنك تقوم في سبك مصدره: عجبت من قيامك كما لا يخفى، وعليه فالمصدر المنسبك من قوله: {أَلاَّ يَسْجُدُوا} يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفظة لا زائدة، وقد أشرنا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعرا: 12] إلى أنا أوضحنا الكلام على زيادة لا لتوكيد الكلام في كتابنا [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب] في أول سورة البلد في الكلام، على قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] وسنذكر طرفًا من كلامنا فيه هنا.فقد قلنا فيه: الأول وعليه الجمهور. أن لا هنا صلة على عادة العرب فإنها ربما لفظت لا، من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام، وتوكيده كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا} [طه: 29] يعني أن تتبعني، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] أي أن تسجد على أحد القولين. ويدل له قوله تعالى في سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقوله تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] الآية أي فوربك، وقوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} [فصلت: 34] أي والسيئة، وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] على أحد القولين، وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] على أحد القولين، وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151] الآية. على أحد الأقوال الماضية، وكقول أبي النجم:يعني أن تسخر، وقول الآخر: يعني أن أحبهن ولا زائدة، وقول الآخر: يعني أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولاسيما على رواية البخل بالجر، لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجر وقول امرئ القيس: يعني وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر: يعني وعمر ولا صلة، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج: والحور الهلكة يعني في بئر هلكة ولا صلة. قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي: ويروى أفمنك وتشميه بدل أفعنك وتسمنه، يعني أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر: يعني كاد يتقطع، وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ: فغلط منه، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله، مع أن أهلها يحفظون مالهم، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية، على القول بأن لا فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أول الكلام دون غيره، فلا دليل عليه. انتهى محل الغرض من كتابنا: [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب].وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة: ألا يسجدوا بتخفيف اللام من قوله ألا، وعلى قراءة الكسائي هذه، فلفظة ألا حرف استفتاح، وتنبيه ويا حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره ألا يا هؤلاء اسجدوا، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات، أنك إذا قيل لك: قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي أنك تقف في قوله: ألا يسجدوا ثلاث وقفات الأولى: أن تقف على ألا. والثانية: أن تقف على يا، والثالثة: أن تقف على اسجدوا، وهذا الوقف على أن لأنها مدغمة في لا، والثانية: أنك تقف على يسجدوا.واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان، الأولى: الألف المتصلة بياء النداء، والثانية: ألف الوصل في قوله: اسجدوا، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط، بأنهما لما سقطتا في اللفظ، سقطتا في الكتابة قالوا ومثل ذلك في القرآن كثير.واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة ألا للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر قالوا، وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل: وقول ذي الرمة: فقوله في البيتين ألا اسلمي: أي يا هذه اسلمي، وقول الآخر: وقول الشماخ: يعني ألا يا صحبي أصبحاني، ونظيره قول الآخر: ومنه قول الآخر: يعني ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته قول الشاعر: بضم التاء من قوله: لعنة الله، ثم قال فيالغير اللعنة يعني أن المراد: يا قوم لعنة الله. إلى آخره، وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهدًا لقراءة الكسائي المذكورة قول الشاعر: ثم قال كأنه أراد قوم قاتل الله صبيانًا، وقول الآخر: ثم قال كأنه دعا يا قوم يا إخواتي، فلما أقبلوا عليه قال من رأى، وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته قول عنترة في معلقته: قالوا: التقدير: يا قوم انظروا شاة ما قنص.
|